الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضى أم تربى؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده في حقه وأخر عنه في الأجل. رواه مالك.وهذا الربا مجمع على تحريمه، وبطلانه، وتحريمه معلوم من دين الإسلام، كما يعلم تحريم الزنى، واللواطة، والسرقة.قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض، كزيادته في مقابلة زيادته، فكما أن هذا ربًا، فكذلك الآخر.قال المبيحون: صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: «أعجل لك وتضع عنى» وهو الذي روى: «أَنّ رَسُولَ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسَلم: لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِى النَّضِيرِ مِنَ المَدِينَةِ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّكَ أَمَرْتَ بِإخْرَاجِهِمْ، وَلَهُمْ عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ النبي صلّى اللهُ تَعَالَى علْيهِ وآلهِ وَسلَمَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا».قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد.قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقى، وإسناده ثقات: وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجى، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعى واحتج به.وقال البيهقى: باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله، فوضع عنه، طيبة به أنفسهما. وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط، بل هذا عجل، وهذا وضع، ولا محذور في ذلك.قالوا: وهذا ضد الربا، فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لا حق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى.قالوا: ولأن مقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفى الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له.قالوا: والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمى الغريم المدين: أسيرًا ففى براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر، وهذا لازم لمن قال: يجوز ذلك في دين الكتابة. وهو قول أحمد، وأبى حنيفة، فإن المكاتب مع سيده كالأجنبى في باب المعاملات، ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين، ولا يبايعه بالربا، فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته، ويضع عنه باقيها، لما له في ذلك من مصلحة تعجيل العتق، وبراءة ذمته من الدين، لم يمنع ذلك في غيره من الديون. ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل في المسألة وقال: لا يجوز في دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز في ثمن المبيع والأجرة، وعوض الخلع، والصداق، لكان له وجه، فإنه في القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط باقيه، خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة، فوفاه تسعين، بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة، فهو كالمربى سواء في اختصاصه بالمنفعة، دون الآخر، وأما في البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد، وجعل العوض حالًا أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل، لكن تحيلا عليه، والعبرة في العقود بمقاصدها لا بصورها. فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه.فتلخص في المسألة أربعة مذاهب:المنع مطلقًا، بشرط، وبدونه، في دين الكتابة وغيره، كقول مالك.وجوازه في دين الكتابة، دون غيره، كالمشهور من مذهب أحمد وأبى حنيفة.وجوازه في الموضعين. كقول ابن عباس، وأحمد في الرواية الأخرى.وجوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن، كقول أصحاب الشافعى، والله أعلم.المثال الحادى والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه في شهر كذا من سنة كذا، فإن لم يفعل فعليه مائتان، فقال القاضي أبو يعلى: هو جائز، وقد أبطله قوم آخرون.والحيلة في جوازه على مذهب الجميع: أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بَتا، ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة، يؤديها إليه في شهر كذا، على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما.المثال الثانى والعشرون: إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه في سنتين، فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى، فهى كتابة فاسدة، ذكره القاضي، لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك.والحيلة في جوازه: أن يكاتبه على ألفى درهم، ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين. فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون قد علق الفسخ بخطر، فيجوز. وتكون كالمسألة التي قبلها.المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله، أو تأجيل بعضه، لم يلزمه التأجيل. فإن الحال لا يتأجل. والصحيح: أنه يتأجل، كما يتأجل بدل القرض. وإن كان النزاع في الصورتين. فمذهب أهل المدينة في ذلك هو الراجح.وطريق الحيلة في صحة التأجيل ولزومه: أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذي اتفقا عليه، وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق. فإذا فعل هذا من رجوعه في التأجيل.المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارا بألف، فجاء الشفيع يطلب الشفعة، فصالحه المشترى على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك، لأن الشفيع صالح على بعض حقه، كما أنه صالح من ألف على خمسمائة. فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقُوَّم البيت ثم تخرج حصته من الثمن، جاز أيضًا، لأن حصته معلومة في أثناء الحال. فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح. كما إذا اشترى شقصًا وسيفًا: فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن، وإن كانت مجهولة حال العقد، لأن مآلها إلى العلم. وقال القاضي وغيره من أصحابنا: لا يجوز، لأنه صالحه على شيء مجهول.ثم قال: والحيلة في تصحيح ذلك: أن يشترى الشفيع هذا البيت من المشترى بثمن مسمى، ثم يسلم الشفيع للمشترى ما بقى من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت تسليم للشفعة.فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته في الباقى.فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة، بل يصبر حتى يبتدئ المشترى، فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا، فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به، ولا يكون مسلمًا للشفعة في باقى الدار وليس في هذه الحيلة إبطال حق غيره، وإنما فيها التوصل إلى حقه.المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليق الوكالة على الشرط. كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط. وقد صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تعليق الإمارة بالشرط وهى وكالة وتفويض، وتولية، ولا محذور في تعليق الوكالة بالشرط البتة.والحيلة في تصحيحها: أن ينجز الوكالة ويعلق الإذن في التصرف بالشرط وهذا في الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط، فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه، والتوكل وسيلة وطريق إلى ذلك، فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط، فالوسيلة أولى بالجواز.المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبراء بالشرط. ويصح، وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا: لا يصح. قالوا: فإذا قال: إن مت فأنت في حل مما لى عليك. فإن علق ذلك بموت نفسه صح، لأنه وصية. وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح. لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة. فيقال: أولا، الحكم في الأصل غير ثابت بالنص، ولا بالإجماع، فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه علق الهبة بالشرط في حديث جابر لما قال: «لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لأعْطَيْتُكَ هكَذَا، وَهكَذَا، ثمَّ هكَذَا»- ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ. وأنجز ذلك له الصديق رضي الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.فإن قيل: كان ذلك وعدًا؟.قلنا: نعم، والهبة المعلقة بالشرط وعد. وكذلك فعل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما بعث إلى النجاشى بهدية من مسك، وقال لأم سلمة: «إِنِّى قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِى حُلَّةً وَأَوَاقِى مِنْ مِسْكٍ، وَلا أَرَى النَّجَاشِى لا قَدْ مَاتَ، وَلا أرَى هَدِيَّتِى إِلا مَرْدُودَةً فإن رُدَّتْ عَلَى فَهِى لَكِ» وذكر الحديث، رواه أحمد. فالصحيح: صحة تعليق الهبة بالشرط، عملا بهذين الحديثين.وأيضًا. فالوصية تمليك، وهى في الحقيقة تعليق للتمليك بالموت، فإنه إذا قال: إن مت من مرضى هذا فقد أوصيت لفلان بكذا، فهذا تمليك معلق بالموت. وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط. نص عليه في رواية الميمونى في تعليقه بالموت. وسائر التعليق في معناه، ولا فرق البتة. ولهذا طرده أبو الخطاب. وقال: لا يصح تعليقه بالموت. والصواب طرد النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره. وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد. وهو مذهب مالك. ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته. وإنما عدم الصحة قول القاضي وأصحابه.وفى المسألة وجه ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط، وهذا اختيار الشيخ موفق الدين. وفرق بأن تعليقه بالموت وصية، والوصية أوسع من التصرف في الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحمل والصحيح: الصحة مطلقًا. ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث، ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون، بطنا بعد بطن، وأن كونه وقفا على البطن الثانى مشروط بانقضاء البطن الأول. وقد قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].وقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ».والقياس الصحيح: يقتضى صحة تعليقه، فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك، ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة، اتفاقًا، وكذلك إذا كان على آدمى معين، في أقوى الوجهين، وما ذاك إلا لشبهه بالعتق.والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله، فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب.ويقال ثانيًا: لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء، بل القياس الصحيح يقتضى صحة تعليقه، لأنه إسقاط محض، ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرئ، ولا رضاه، فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك.وعلى هذا، فيستغنى بالصحة في ذلك كله عن الحيلة. فإن احتاج إلى التعليق، وخاف أن ينقض عليه، فالحيلة: أن يقول: لا شيء لى عليه بعد هذا الشهر أو العام، أو لا شيء لى عليه عند قدوم زيد، أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا، أو عام كذا، أو عند قدوم زيد بسبب كذا، أو من دين كذا، فهى دعوى باطلة، أو يقول: كل دعوى أدعيها في تركته بعد موته: من دين كذا أو ثمن كذا، فهى دعوى باطلة. وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شيء من ذلك.المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة، ملكت الفسخ، فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ، لأن عليها في ذلك منة، كما أراد قضاء دين عن الغير، فامتنع ربه من قبوله، لم يجبر على ذلك.وطريق الحيلة في إبطال حقها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير، فتصح الحوالة، وتلزم على أصلنا، إذا كان المحال عليه غنيا. وطريق صحة الحوالة: أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهرًا، أو نحو ذلك، ثم يحيلها الزوج عليه، فإن لم يمكنه الإجبار على القبول، لعدم من يرى ذلك، وكل الزوج الملتزم لنفقتها في الإنفاق عليها، والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه، أو بوكيله. وهكذا العمل في مسألة أداء الدين عن الغريم سواء.المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التي لا يملكها بعقد المضاربة، فخلط المال بغيره، أو استبراء به بأكثر من رأس المال، والاستدانة على مال المضاربة، أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعًا، أو إيداعًا، أو السفر به. فطريق التخلص من ضمانه في هذا كله: أن يشهد على رب المال أنه قال له: اعمل برأيك، أو ما تراه مصلحة.
|